الليلة الماضية نمت في أرجوحة. هذا ما شعرت به على متن كاسحة الجليد وهي تمخر عباب المحيط القطبي الشمالي الهائج. ولكن لا جليد لكي تكسحه، بل مياه زرقاء مكشوفة. كانت السفينة ترتجّ من وقت الى آخر وهي تطأ كتلاً جليدية معلقة تحت الماء، ولكن لا جليد على السطح. فمعظم الجليد البحري ذاب في هذا المحيط، باستثناء الكتلة القطبية الكبرى التي تتقلص سنوياً بسرعة غير مسبوقة، والأكداس الجليدية الملاصقة لجزيرة غرينلاند وألاسكا والأراضي الشمالية، وهذه أيضاً في حال ذوبان سريع.
كنت بين 14 صحافياً من أنحاء العالم دعاهم الاتحاد العالمي للصحافيين العلميين (WFSJ) للانضمام الى بعثة علمية دولية على متن كاسحة الجليد الكندية «أموندسن» المخصصة للأبحاث. فأبحرت صيف 2008 لمدة أسبوعين في منطقة القطب الشمالي لأشهد على مفاعيل الاحترار العالمي حيثما تبدو للعيان بأسرع تجلياتها.
وصلتُ البارحة الى جزيرة بانكس، شمال غرب كندا، بعد سفرة طويلة من لبنان تخللتها 8 رحلات جوية. على تلك الجزيرة الباردة القاحلة تصورت كيف يمكن أن تكون الحياة على سطح القمر. ومع ذلك فالجزيرة مأهولة، فيها قرية لشعب الإنويت، المعروف بالاسكيمو، يعيش فيها 120 شخصاً. جاء شاب من القرية الى مهبط الطائرات حيث كنا ننتظر الهليكوبتر لتقلّنا الى كاسحة الجليد. فسألته عن طبيعة الحياة على الجزيرة. أخبرني أن قومه يعيشون على صيد الأسماك والفقم وأيائل الرنة وثيران المسك وإوز الثلج الذي يحطّ بمئات الألوف. الصيف قصير جداً لا يتعدى الشهرين، لذلك لا يستطيع الإنويت زراعة الخضار والفواكه. ويسمح لأهل القرية بصيد 28 دباً قطبياً كحصة سنوية، وهم يأكلون لحمها ويبيعون جلودها، «لكننا لم نعد نفي بحصتنا، فقد قلّ عدد الدببة».
الحياة تغيرت على الإنويت الذين عاشوا في هذه الأصقاع منذ آلاف السنين. فهم يعوِّلون على تجمد مياه المضائق للتنقل والعبور الى جزر أخرى من أجل صيد الأيائل. ولكن مع ارتفاع لا سابق له في درجة الحرارة في منطقة القطب الشمالي، أصبح الجليد يذوب ربيعاً في وقت أبكر، وتبدأ مياه المحيط بالتجلد خريفاً في وقت متأخر. وبات الإنويت يجدون الجليد المترقق وتغير أنماط الحياة الفطرية غير مؤاتيين لمعيشتهم.
وهذا أيضاً ما يقلق جمهرة العلماء الآتين من أنحاء العالم، الذين احتلوا سفينة خفر السواحل الكندية «أموندسن»، ليدرسوا تغير المناخ حيث تتبدّى تأثيراته أولاً... في منطقة القطب الشمالي. وللأسف لم يكن بينهم أي باحث عربي، مع أن المنطقة العربية ستكون الأكثر تأثراً بتغير المناخ.
خسر القطب الشمالي نحو ثلث جليده منذ بدء القياسات بواسطة الأقمار الاصطناعية في أواخر السبعينات. وإذا استمر الذوبان بهذا المعدل المتزايد، يتوقع العلماء أن يصبح الصيف القطبي خالياً من الجليد خلال سنوات معدودة.
المنطقة القطبية الشمالية، التي توصف بأنها «مكيف هواء الأرض»، تساعد في تبريد الكوكب بواسطة جليدها البحري الأبيض العاكس لأشعة الشمس. ولها تأثير قوي على الأحوال الجوية، خصوصاً في النصف الشمالي للكرة الأرضية. الجليد البحري هنا يذوب في الربيع والصيف، لتتجمد مياه سطح المحيط من جديد في الخريف والشتاء. لكن الاحترار في المنطقة القطبية الشمالية بلغ نحو ضعفي الاحترار الذي شهدته بقية الكرة الأرضية في العقود الأخيرة. والذوبان الكاسح سيؤدي الى عدم ارتداد أشعة الشمس عن الأرض، مما يخفض عملية التبريد هذه ويزيد الاحترار ويخل بأنماط الطقس فتزداد العواصف والأعاصير، كما سيشوّش النظم الايكولوجية البحرية ويدمر الحياة الفطرية، بما في ذلك الدببة والفقم.
معظم العلماء يؤكدون أن الاحترار العالمي ناجم عن أعمال البشر، خصوصاً حرق الوقود للصناعة والنقل وإنتاج الطاقة. لكن علماء آخرين يصرّون على أن هذه مرحلة في دورة طبيعية، يسخن فيها جو الأرض ثم يبرد بعد حين. بل ان أناساً كثيرين يؤمنون بأن ما يحصل هو غضب اللـه على خليقته التي استخلفها على الأرض فعاثت فيها فساداً.
لقد أبحرتُ في المحيط «المتجمد» الشمالي ولم أرَ جليداً يذكر. هذا أمر يكاد لا يصدق. وأياً يكن السبب، فالاحترار العالمي حقيقة، وذوبان الجليد عملية حاصلة. وعلينا جميعاً، أفراداً ومؤسسات وحكومات ومجتمعاً دولياً، أن نفعل شيئاً حيال هذا الأمر. ومهما تكن مساهمة البشر في هذا الاحترار كبيرة أم صغيرة، فإن «كسر عادة الكربون» بالتقليل من حرق الوقود واستهلاك الطاقة سينفع في كل حال. فإن لم يخفف الاحترار، فسوف يخفف بالتأكيد فداحة التلوث واستنزاف الموارد الطبيعية.
|