التنوع البيولوجي عبارة تكرّر سماعها عام 1992 بعد مؤتمر ريو الذي كرّس الدفاع عن البيئة. وهي تعني وجوب دراسة جميع أنواع الكائنات الحيّة بغية الدفاع عنها والعمل على المحافظة عليها. ولذا كان من واجب العاملين في هذا المجال التذكير دوماً بما يعنيه التنوّع البيولوجي، وما تقوم به كلّ منطقة من أبحاث، مع تبرير العمل الدؤوب الذي يسعى إلى الحفاظ على جميع الكائنات ووجوب وضع حدّ للتعديات المستمرّة على الطبيعة في أنحاء العالم.
لكي نفهم التنوع البيولوجي على أشكاله، نستعرض بعض مواضيع الأبحاث التي تقدّم بها في الماضي طلاب شهادة الكفاءة للتعليم الثانوي في الجامعة اللبنانية في اختصاص العلوم الطبيعية. لقد درس هؤلاء أنواع السمك المعروض للبيع في ساحات السمك في مختلف الفصول، كما استقصوا عن مختلف العصافير التي وُجدت مع الصيّادين عندما كان الصيد مسموحاً، وقاموا بوصف وتسمية أنواع الأشجار المثمرة. فوجدوا مثلاً أن لشجر التين 17 نوعاً تختلف باللون والشكل والطعم وفقاً لاختلاف المناطق اللبنانية، وكذلك لشجر الأكيدنيا والليمون والزيتون وسواها.
ودرس بعضُهم البيئة المحيطة بأقسام مختلفة من الأنهر، مثل نهر الأولي في مجراه الأخير، ونهر ابراهيم قبل أن تشوّه يدُ الإنسان الجاهل منظر واديه الجميل، وواقع مستنقع عميق. فوضعوا لوائح عن حيوانها ونباتها. ويتسنى لمن يطّلع اليوم على تلك اللوائح مقارنة النتائج الماضية ومعرفة ما بقي من هذه الأنواع حيّاً وما انقرض.
من هذا المثل نستنتج أن التنوع البيولوجي يشمل مختلف الكائنات. وعددها في كلّ بلد يرتفع أو ينخفض وفق تنوع التربة والمناخات وتوفر المياه والبعد عن المناطق السكنية أو القرب منها. كما أنّ دراسة المواقع الجغرافية المتنوعة، كقمم الجبال ومنحدراتها ووديانها وشواطئ البحر بصخورها وحصاها أو رمالها، تكمل هذه الدراسة وتساعد على الربط بين الحيوان والنبات والأمكنة التي يلجأ إليها كل كائن حي. معرفة هذه الأمكنة، التي نشير إليها بكلمة «موائل»، مهمة جداً لتكملة إحاطتنا بالموضوع.
لقد تمكّن الباحثون قبل مؤتمر «قمة الأرض» في ريو دي جانيرو عام 1992 من وضع لوائح شبه كاملة لمختلف الكائنات الحيّة التي تعيش على أرض لبنان وفي مياه مجاريه. وكان لبنان السبّاق بين دول المنطقة في تقديم هذه اللوائح إلى المراجع الدوليّة المختصة. وتبيّن من مراجعة هذه النتائج أنّ عدد انواع النباتات اللبنانية البريّة مثلاً يصل إلى 2600 نوع، ويعتبر هذا المعدل مرتفعاً جدّا بالنسبة إلى مساحة الأراضي. ومنها ما يقارب مئة نوع يتفرّد بها لبنان دون سواه من البلدان.
ولا عجب في ذلك، فغنى لبنان بحيوانه ونباته يعود إلى تعدد الموائل فيه: من طقس حارّ على الساحل إلى طقس بارد في أعلى القمم التي لا تبعد بالسيارة أكثر من ساعة عن البحر، ومن هواء رطب على السفوح الغربية إلى هواء جاف على هضاب السلسلة الشرقية وطقس شبه صحراوي في شمال البقاع. كلها مناخات تستوطنها مخلوقات متكيّفة مع تنوّعات البيئة الطبيعيّة. وقد عدّد الطبيب الفرنسي غياردو في منتصف القرن التاسع عشر هذه المناخات وقسمها إلى موائل تتغير كلما ارتفعنا 500 متر عن سطح البحر. وإذا صحّ ما يقال عن تغيّر في المناخ، فسوف تستقر في لبنان أنواع جديدة من الحشرات والنباتات بدأت طلائعها تظهر هنا وهناك، ولا سيما في سهل البقاع حيث تهدر بقايا المياه الجوفية من دون رادع في سقي البصل والبطاطا وغيرها، حتى في أشهر الشتاء، مما سيؤدي حتماً وفي وقت قريب إلى أزمة مياه حادة.
التنوّع البيولوجي هبة يتحكّم الإنسان بها كما يشاء، ويعتدي عليها بجهله وطمعه. فالعمران المنتشر في كلّ مكان، والوسائل الزراعية الحديثة التي لا تعرف حدودها، وقلّة النظر نحو المستقبل، جميعها من العوامل التي تضيف إلى الجهل سلاحاً فتّاكاً وإلى الطمع ندامة لا تنفع.
|